انسداد السلام: صدمه الأطفال فی حرب غزّه والروایه الصادمه للجیل القادم

الانتقام هنا یُفهم کوسیله لإداره تبعات الصدمه. فالمتضرر یتخیل عذاب المعتدی فیشعر باستعاده العداله والقوه، ولو فی ذهنه فقط. أما عنصر الإذلال، فهو ما یفاقم المیل إلى الانتقام. تقاریر عدیده وثّقت ممارسات مهینه قام بها جنود الاحتلال بحق المدنیین، مثل منع دفن الجثث، أو إجبار النازحین على نزع ملابسهم فی الممرات الآمنه أمام الناس، أو اعتقال الرجال وتجریدهم من ملابسهم والتقاط صور لهم. هذه الأحداث، بحسب الدراسات، تزید من الرغبه فی الانتقام، وهو ما نشهده فی غزه.

الأزمه الإنسانیه الناتجه عن حرب إسرائیل فی غزه بعد ۷ أکتوبر ۲۰۲۳

لقد کان لهذه الحرب أثر مدمر على العائلات والأطفال. فقد أدت إلى خسائر بشریه، نزوح داخلی واسع النطاق، وتدمیر البنیه التحتیه المدنیه الأساسیه بما فی ذلک المدارس والجامعات والمستشفیات. إن غیاب مکان آمن فی قطاع غزه خلق شعورًا عامًا بالخوف والرعب بین جمیع السکان. وفی هذا السیاق، فإن الأطفال الذین ینجون من الکوارث البشریه مثل الحرب لا یخرجون منها دون أذى، بل قد یدفعون ثمنًا باهظًا نفسیًا وعاطفیًا وسلوکیًا.

ما یلفت الانتباه فی حرب غزه بعد السابع من أکتوبر، هو أن الأطفال کانوا شهودًا على قصف منازلهم ومدارسهم، کما عاشوا تجربه فقدان أحبائهم، وفی الوقت الذی کانوا یحاولون فیه النجاه من أجواء الحرب؛ أصبحوا مشردین بین أنقاض غزه أو منفصلین عن أسرهم. وتشیر التقدیرات إلى أنه خلال حرب غزه ما لا یقل عن ۱۷,۰۰۰ طفل کانوا بلا مرافقه أو منفصلین عن والدیهم. وخلال حرب ۲۰۲۳ فی غزه، کان الأطفال یفرون للنجاه من القنابل والرصاص، ویشاهدون الشوارع الملیئه بالرکام والجثث. کما اضطروا لفترات طویله إلى النوم فی العراء والبقاء على قید الحیاه بأقل قدر من الطعام والماء، فی مواجهه مباشره مع وحش الموت المرعب.

العوامل المذکوره أعلاه تدل على أن أطفال غزه یعیشون فتره من الصدمه والحزن العمیق. إذ أکد العدید من الآباء فی مقابلات مع أطباء بلا حدود أن أبناءهم یمتنعون عن الأکل خوفًا. وکانوا یسألونهم دائمًا: هل سنموت؟ “أمل” [۱]، أم لأربعه أطفال فی غزه، قالت فی هذه المقابله: “بعض أبنائی لم یعودوا قادرین على الترکیز فی المهام الأساسیه. إنهم ینسون فورًا ما أقوله لهم ولا یستطیعون تذکر ما حدث مؤخرًا”.

۲- الصدمه والانهیار النفسی لأطفال غزه فی حرب ۲۰۲۳

کان الأطفال عبر التاریخ ضحایا غیر مرئیین للنزاعات المسلحه. والیوم، تتسع رقعه الحروب والعداوات فی کثیر من أنحاء العالم. وبحسب الیونیسف، فإن الحرب تؤثر سلبًا على الصحه النفسیه للأطفال، وتضعف تکیفهم، وصورتهم الذاتیه، ومرونتهم، وجوده حیاتهم. إن آثار الحرب والعنف على الصحه النفسیه للأطفال والبالغین معروفه جیدًا. وغالبًا ما تظهر آثار الحرب على الأطفال من خلال اضطرابات نفسیه شدیده ومزمنه مثل اضطراب ما بعد الصدمه، القلق، والمشکلات السلوکیه.

یتعرض الشعب الفلسطینی باستمرار لأشکال متعدده من العنف مثل إطلاق النار والقصف والإصابات الجسدیه. ونتیجه لهذه الأزمه المستمره، أصیب الفلسطینیون، وخاصه الأطفال، بالصدمه النفسیه. فأطفال فلسطین الیوم هم الجیل الثالث أو الرابع الذی یعیش تحت الاحتلال الإسرائیلی؛ حیاه یمیزها العنف والتشرید. أما أطفال غزه، الذین وصفتهم منظمه هیومن رایتس ووتش بأنهم یعیشون فی “أکبر سجن مفتوح فی العالم”، فقد ظلوا دومًا تحت حصار بری وجوی وبحری. ومع اندلاع الحرب فی غزه بعد ۷ أکتوبر، وفی ظل تراکمات من الأذى الممتد عبر الأجیال نتیجه عقود من الاحتلال والاستعمار والفصل العنصری، تلقّت صحه الأطفال الجسدیه والنفسیه ضربات مدمره. وبعد حرب ۲۰۲۳، وصف الأمین العام للأمم المتحده قطاع غزه بأنه “مقبره للأطفال”. مقبره یُکتب فیها للأطفال، حتى وإن حافظوا على صحتهم الجسدیه، أن یواجهوا انهیارًا نفسیًا وصدمه عمیقه.

الصدمه (Trauma): مصطلح نفسی ذو أصل یونانی یعنی “الجرح”. وهو جرح یُعرف غالبًا کإصابه نفسیه تحدث عندما یتعرض الفرد لموقف شدید التوتر أو صادم. فی مثل هذه الحالات، یشعر الإنسان بعدم الأمان وبأن الخطر یحیط به باستمرار. الصدمه هی اعتداء جوهری على إحساس الإنسان بوجوده. اعتداء یفوق قدرته على المواجهه والاستیعاب، ویمس جوهر کینونته فی العالم.

تنشأ الصدمه من:

تجربه مباشره للحدث،

مشاهده مباشره لما یحدث للآخرین،

العلم بوقوع حدث صادم لأحد أفراد الأسره أو الأصدقاء المقربین،

التعرض المتکرر أو المکثف لتفاصیل غیر مرغوبه للحدث (أو الأحداث) الصادمه.

تشیر تقاریر عدیده إلى أن الصحه النفسیه للأطفال فی غزه قد تدهورت بشکل غیر مسبوق بعد الهجوم الإسرائیلی، بل إن بعض الملاحظات تشیر إلى انهیار کامل. یظهر هذا الانهیار فی الخوف، القلق، اضطرابات الأکل، التبول اللیلی، فرط الیقظه، اضطرابات النوم، وکذلک التغیرات السلوکیه مثل التشبث المفرط بالوالدین، الانتکاس، والعدوانیه. لم یعش أی طفل فی غزه خارج دائره العنف المستمر والحصار المفروض من قبل إسرائیل. لقد مروا مرارًا بأحداث صادمه قبل ۷ أکتوبر أو شهدوا وقوعها. ورغم أن ذلک کان شائعًا حتى قبل حرب ۲۰۲۳، إلا أن هذه الحرب ترکت تأثیرًا مدمرًا ومضاعفًا على الصحه النفسیه والاجتماعیه للأطفال. إذ أشار کثیر من الآباء إلى أن أطفالهم قد فقدوا آمالهم فی المستقبل.

من بین التجارب الصادمه فی النزاعات المسلحه: الإصابات الجسدیه، مواجهه الموت، الاعتقال، الحرمان من الغذاء والماء والرعایه الصحیه، فقدان المأوى، النزوح القسری، والانفصال عن الأسره. إن المعاناه النفسیه التی یعیشها سکان غزه لا یمکن وصفها. فهنا، الجمیع غارق فی الحزن. لقد عانى الأطفال من عنف لا یُصدق، ومن فترات طویله دون غذاء کافٍ، ومن ندره المیاه، ومن لیالٍ یهیمن علیها صوت الطائرات المسیّره. کل هذه العوامل ترکت آثارًا نفسیه عمیقه على الأطفال تفوق قدره القیاس.

تشیر بیانات أکثر من ۸۸۰۰ جلسه دعم نفسی أجرتها منظمه أطباء بلا حدود فی غزه إلى أن الألم الجسدی غالبًا ما کان یفتح جروحًا نفسیه، إذ تذکّر الأطفال بالقنابل التی غیّرت حیاه أسرهم إلى الأبد. وأظهر تقریر جدید صادر عن منظمه غیر حکومیه مقرها بریطانیا أرقامًا صادمه عن الأضرار النفسیه للأطفال فی حرب غزه ۲۰۲۳: ۹۶% من الأطفال فی غزه یشعرون بأن موتهم وشیک، ۸۷% منهم یعانون من خوف شدید، و۴۹% تمنوا الموت بسبب الحرب. وتشیر تقاریر أخرى إلى أن نحو نصف الأطفال یعتقدون أنهم سیموتون نتیجه الحرب. کثیر من الأطفال یظهرون أعراض العدوانیه، الخوف، الانطواء، القلق الحاد، إضافه إلى شعور شامل بالیأس. النزوح، فقدان الأحبه، والقصف المستمر ألحق أضرارًا نفسیه بالأطفال ووضع عائلاتهم فی ظروف مأساویه.

۳- الصدمه وردود الفعل المستقبلیه: نزعه الانتقام بعد الحرب

فی غزه، وبینما یواجه الأطفال خطر الموت والإصابه، فإنهم یعیشون أیضًا أعراض صدمه نفسیه شدیده. الصدمه هی تجربه عاطفیه مؤلمه أو صادمه غالبًا ما تترک آثارًا سلبیه طویله الأمد على الجسد والعقل. وقد یتبنى الأطفال ردود فعل تجاه الصدمه تستمر طویلاً بعد نهایه الحرب وتؤثر بعمق على حیاتهم الیومیه. من ذلک، أن بعضهم قد یقلد سلوکیات عنیفه، معتقدین أن ذلک یحمیهم. وهنا یکمن البعد الخطیر: أثر هذه الأضرار النفسیه على مستقبل غزه.

إن الصدمات النفسیه الناتجه عن الحرب فی غزه تخلّف آثارًا طویله الأمد، أبرزها نزعه الانتقام. فوفق الدراسات النفسیه، یُنظر إلى الانتقام کاستجابه محتمله للتجارب الصادمه، وکآلیه للتکیف. قد یرى الفرد فی الانتقام محاوله لتحقیق العداله، أو وسیله لتخفیف الألم. فی العلاقه بین الصدمه ونزعه الانتقام، یکون الشعور بالضحویه (Being a victim) متغیرًا وسیطًا أساسیاً. وبحسب وزاره الصحه فی غزه، من النادر أن ینجو طفل فی غزه من فقدان أحد أقاربه خلال حرب ۲۰۲۳. أحد أکثر الأسئله تکرارًا على ألسنه الأطفال منذ ۷ أکتوبر کان: “هل سأکون أنا التالی؟”. هذا الشعور بالضحویه یثیر عملیات عاطفیه ومعرفیه مثل الغضب، التخیلات الانتقامیه، قبول الظلم، إعاده صیاغه الحدث ومعانیه، مع کبت أو إنکار المشاعر.

تؤدی التجارب المؤلمه مثل حرب ۲۰۲۳ عاده إلى نزعه الانتقام کرد فعل على الشعور بالظلم الشدید، مما یولد انعدام الثقه المتبادل، ویشوه التفسیرات حول نوایا الآخرین، ویمکّن بعض الجماعات المتعارضه من استغلال هذا العامل کقوه دافعه سیاسیه واجتماعیه. کما أن الصدمه تعزز الربط بین قیمه الأرض والحیاه، وتربط العنف بالخلاص، مما یطیل أمد النزاعات.

لقد فقد أطفال غزه معنى الحیاه والطفوله، ویستمرون لمدى طویل فی العیش مع آثار هذه الأحداث على صحتهم النفسیه. تعرضهم المستمر للعوامل الصادمه الیومیه یجعل من الصعب تطبیق مفهوم اضطراب ما بعد الصدمه لدیهم، لأن الأحداث الصادمه تتکرر بشکل مستمر ولا یوجد بعدٌ للحادثه السابقه. ویجب النظر إلى النماذج الدائریه للصدمه وفقًا لفکر فرانسللی؛ فکلما استذکر الأفراد الأحداث الصادمه، فإنهم یعیدون تجربه الصدمه ویحافظون علیها مدى الحیاه. والصدمه لا تقتصر على الأفراد المتأثرین مباشره، بل تنتقل عبر الروایه إلى جمیع أعضاء المجتمع الحالی والمستقبلی، حیث تظل الذاکره الجماعیه للصدمه مستمره، وتنتقل عبر الأجیال، مسببه دورات متکرره من العنف والانتقام.

الانتقام هنا یُفهم کوسیله لإداره تبعات الصدمه. فالمتضرر یتخیل عذاب المعتدی فیشعر باستعاده العداله والقوه، ولو فی ذهنه فقط. أما عنصر الإذلال، فهو ما یفاقم المیل إلى الانتقام. تقاریر عدیده وثّقت ممارسات مهینه قام بها جنود الاحتلال بحق المدنیین، مثل منع دفن الجثث، أو إجبار النازحین على نزع ملابسهم فی الممرات الآمنه أمام الناس، أو اعتقال الرجال وتجریدهم من ملابسهم والتقاط صور لهم. هذه الأحداث، بحسب الدراسات، تزید من الرغبه فی الانتقام، وهو ما نشهده فی غزه.